مقر المؤسسة
الرئيسية |
دراسة فنية لبناء المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي
(من دراسة للأستاذ محمد أبو الفرج العش)
بدأ الفن المعماري منذ القرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين يتأثر بشكل واضح بأسلوب الفن الأوروبي عامة وبالفن الإيطالي خاصة. تتجلى هذه الظاهرة بالدور الدمشقية التي بنيت في القرن التاسع عشر. صحيح أنها احتفظت بمخطط البناء الشرقي وببعض العناصر الفنية في العمارة العربية، إلا أن واجهاتها الداخلية في الباحة والقاعات زينت بعناصر أجنبية منتحلة من الروكوكو الأوربية، ولقد أسرفت باستعمال الرخام الإيطالي والمرايا البلجيكية... وأن أبرز مثال على هذا الاتجاه دار القوتلي في مئذنة الشحم، المدرسة المحسنية (البناء الشمالي)، دار الزبون (حي اليهود)، دار الشيخ قطنا (مدرسة حسن الخراط) حالياً على ظهر القنوات.
أما الأبنية الرسمية كقصر البلدية ودار الحكمة، فإنها لا تختلف عن الأبنية الأوربية المتأثرة بالفن اليوناني القديم، ثم ظهر اتجاه أوربي محض في العمارة، وكان أبرز بناء يمثل هذا الاتجاه بناية العابد في ساحة الشهداء.
أول بادرة فنية يبدو فيها حنين إلى الماضي العربي القديم في أوائل هذا القرن تتمثل ببناء محطة سكة الحجاز لكنها ليست إلا بادرة ظهرت فيها عناصر فنية عربية ضمن إطار أوروبي عام.
وفي الثلث الثاني من القرن العشرين بدأ بوضوح إحياء الروح العربية في جميع مجالات الحياة سواء أكانت في الميدان السياسي ومقاومة المستعمر لإجباره على الاعتراف بحقوق الشعب، أم في الاتجاه الأدبي، أم في الإنتاج الفني وخاصة في فن العمارة. في الثلاثينات من هذا القرن ظهر بناء المجلس النيابي (الجناح الغربي) ومدرسة التجهيز وبناء عين الفيجة الذي أنجز فيما بين 1937 و1942 .
بالرغم من المظهر العام لهذه الأبنية العربي يدل على أن هندستها مستمدة من الفن العربي الأصيل، إلا أنها بمخططها وتقسيماتها الداخلية تلبي حاجات العصر الحديث وهي بذلك يمكن أن تمثل ظاهرة فنية جديدة هي التوفيق بين ملامح الماضي ومتطلبات الحاضر. سيكون لهذه الظاهرة أهمية خاصة في دراسة تطور الفن المعماري في سورية وخاصة دمشق.
عهد إلى المهندس السيد عبد الرزاق ملص وضع مخططات بناء هذه المؤسسة وتنفيذه.
وأنيطت أعمال الزخرفة العربية داخلاً وخارجاً إلى الفنان الكبير المرحوم السيد محمد علي الخياط (أبي سليمان).
كانت للمرحوم أبي سليمان دراية ممتازة في النجارة وفن الحفر والتطعيم والترصيع، وكان يتحلى بالدقة في العمل وبالإحساس الفني المرهف.
بالرغم من أن أبا سليمان كان أمياً، فقد كان رجلاً مستنيراً مثابراً دءوبا، عنده روح التتبع والتعمق في الأمور ومراجعة الكتب الفنية المصورة، وكان يحاول أن يكتشف أسرار الصنعة المغلقة كأسرار صناعة الفسيفساء مثلاً.
أوكل العمل الفني للمرحوم أبي سليمان، وكان هذا أول عمل يضع فيه مشروعاً جديداً مستمداً من الفن العربي القديم، ويشرف على تنفيذه.
من أجل أن نعرف القيمة الفنية لهذا البناء يحسن بنا أن نستعرض النقاط الآتية:
نسب العناصر الزخرفية:
استخدم أبو سليمان العناصر الفنية دون أن يقيد نفسه في معرفة هذه العناصر. مثلاً إطار باب القاعة الرئيسية في الطبقة العليا من الفن الكلاسيكي أو البيزنطي، وهو مقتبس من باب قصر الحير الغربي المعاد إنشاؤه في المتحف الوطني بدمشق. درابزين الطبقة العليا يعتمد على الفن العباسي والفاطمي، ثم زيد عليه مستحدثات الفن المملوكي بالتطعيم والترصيع. التعابير النجمية المستعملة في السقوف والأبواب مقتبسة من الفن العربي في العهد الأيوبي. الخيوط الزخرفية، الألواح الرخامية المجزعة في الواجهة الخارجية مستمدة من فن العهد المملوكي.
البوابة الكبرى الخارجية متأثرة بفن العهدين الأيوبي والمملوكي.
مجموعة النوافذ الثلاث لها أمثالها في الفن الأندلسي والمغربي. الرخام المجزع وصناعة الفسقيات مستمدة من الفن العربي منذ العهد الأيوبي والمملوكي حتى أواخر العهد العثماني، وهو فن عربي أصيل ازدهر خاصة في بلاد الشام.
التوفيق بين العناصر الزخرفية:
أحسن أبو سليمان الاختيار، وانتقى لكل موضوع العنصر الذي يناسبه، وأبدع في تحوير العناصر وتحويلها بشكل يتلاءم والذوق الفني، وربما كانت التعابير المقتبسة منقوشة على الحجر، فوضعها على الخشب. المهم عنده أن ترتاح العين لها، وتشعر بانسجام التعابير مع المواضيع، وتوافق الزخارف بعضها بعضاً باللون والتقاسيم، سواء أكان بالمقارنة والمفارقة، أم بالتنويع والتجانس... فكأن هذا العمل خرج من حيز الصورة إلى مرتبة النغم المتزن.
توزيع العناصر الزخرفية:
إذا وقفنا أمام البناء على بعد معقول، نشعر لأول وهلة، أننا أمام بناء مهيب، له تقاسيم وملامح البناء العربي الأصيل، الجبهة والقلب والجناحان كل ذلك متكافئ، وهو مختوم في الأعلى بطنف متوج بزخارف مسننة رشيقة. يعتمد توزيع هذه العناصر الزخرفية على التماثل والتناظر والتساوي والتعادل. الألوان متناسبة ومتسقة وتميل إلى الرشاقة والزهو أحياناً.
إذا دخل المرء إلى الردهة ثم البهو في الطبقة الأرضية ورفع رأسه إلى الأعلى، ناله شعور بالدهشة والإعجاب، سقف وراءه سقف ودرابزونات مشبكة تحصر المنظر إلى سقف عال جداً يستمد النور من نوافذ جانبية، ترسل الضوء متكسرا على الجوانب المزخرفة، متدرجاً إلى الأسفل. تميل ألوان خشب الجوز إلى التجانس والوقار.
عندما يصعد المرء إلى الطبقة العليا، يقترب من العناصر الزخرفية، فيزيد إعجابا بها، يطوف الدرابزونات الخشبية، فيعجب من دقة صنعها وجمال شكلها، وتلوح له السقوف القريبة وترويسات الأبواب، فيشعر أنها تتكافأ مع الساحات غير المزخرفة. فإذا اتجه جنوباً راعته واجهة القاعة الرئيسية (قاعة لجنة عين الفيجة) بغنى زخارفها ورشاقتها وجمالها.
ثم يقع بصره على الأرض، فيرى تحفة فنية تعتبر أية في فن الترخيم والتجزيع، وهي فسقية لطيفة،تحيط بها حصيرة من الرخام المجزع قوامها أشكال هندسية ونجوم وخيوط تتشابك فتؤلف لوحة ملونة رائعة.
أما القاعة الرئيسية فقد كسيت جدرانها بحلقة دمشقية (عجمية) اقتبست من مثيل لها ،
عليها تاريخ تجديد من سنة 1211هـ وركب فيها سقف خشبي قديم نقل إليها من دار السقا أميني في دمشق وهو يعود إلى أول القرن 12هـأي18م.
هذا التوزيع العام في العناصر الزخرفية متزن لا هو بالكثير المفرط ولا بالقليل القاصر، أعطي كل موضوع ما يناسبه من الزخارف شكلاً وكماً، فأتى العمل غاية في البهاء والكمال.
الأعمال الفنية:
هي متنوعة تنوعاً كبيراً في هذا البناء نلخصها فيما يلي:
1 ـ نحت الحجر: يبدو ذلك في الواجهة الخارجية، ونميز منه خاصة نحت التعابير النباتية في الأجزاء الزخرفية نحتاً بارزاً مندمج الأطراف حسب الأسلوب الفاطمي.
2 ـ تقوير وتخريق الزخارف الحجرية:
يقص الحجر ويخرق لإحداث ثقوب نافذة، تبدو بسببها الزخارف واضحة. تعتمد هذه الصنعة في الأغلب على التعابير الهندسية. (تأمل الشرفات في الواجهة الخارجية). هذه الصنعة معروفة منذ العهد الأموي.
3 ـ تجزيع الرخام: وهو تقطيع الرخام الملون إلى أجزاء هندسية وتركيبها بدقة. بدأت هذه الصنعة منذ العهد الاتابكي في سورية، ونضجت في العهدين الأيوبي والمملوكي. نرى هذه الصنعة بلوحتين مثبتتين في الواجهة وفي الفسقية وحصيرتها وترخيم الأرض في البهو.
4 ـ يغلب في هذا البناء نحت الخشب حسب الأسلوب العباسي وحسب الأسلوب الفاطمي، وهذا واضح في واجهة الباب الثاني الدرابزونات وواجهة القاعة الرئيسية في الطبقة العليا.
5 ـ تخريط الخشب: خرط الخشب لصنع الدرابزين المشبك وتسليح النوافذ العليا في المنور الأعلى فوق البهو، وصنع أعمدة رفيعة ضمنت في بعض تفاريج الدرابزونات.
6 ـ تخريط الخشب وتخريمه: لإحداث الزخارف النافذة استعملت هذه الصنعة لتسليح زجاج النوافذ في الواجهة. هذه الصنعة معروفة في آثار العهدين الأيوبي والمملوكي. يعتمد في الأغلب على التعابير الهندسية.
7 ـ تشبيك الخشب وتعشيقة: هذه الصنعة استعملت في صنع السقوف والأبواب الداخلية. وهي معروفة منذ العهد الأيوبي في صنع المنبر والأضرحة الخشبية والأبواب. تعتمد هذه الصنعة على الموضوعات والتعابير الهندسية وخاصة الاطباق النجمية، والمضلعات المتعددة الرؤوس.
8 ـ التنزيل: وهو تنزيل العظم في الخشب لتجميله، ويكون أما بتنزيل خيوط أو فصوص هندسية في العناصر الزخرفية، عرفت هذه الصنعة جيداً في العهد المملوكي وخاصة في القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي.
9 ـ الترصيع: وهنا يتمثل بتزيين عقد شبك الدرابزونات بأنصاف كرات عظيمة فسيفسائية
(حفر العنصر ونزل فيه معجوناً ملوناً فبدأ فسيفسائياً) لا اعرف مثل هذه الصنعة في الفن الإسلامي. يجوز أن نستعمل اصطلاح الترصيع إذا استعملنا وردات أو نجمات أو أشكال هندسية من العظم لتجميل سرة نجمة أو وردة كبيرة أو رصفها في إطار.
10 ـ التدهين بالأصباغ الملونة والذهب: هذه الصنعة معروفة على الخشب منذ العهد الأموي (لدينا في المتحف الوطني أجزاء من الخشب وجدت في قصر الحير الغربي) وفي العهد العباسي القرن الثالث الهجري ـ التاسع الميلادي (لدينا أجزاء خشبية وجدت في تنقيبات الرقة من ذاك العصر). استمرت الصنعة، لكنها نضجت في العهدين الأيوبي والمملوكي ثم العهد العثماني. وقد برعت إيران بهذه الصنعة إلى درجة وسمت الحلقات الخشبية في الدور الشامية بسمتها، فسميت (عجمي). اتجهت هذه الصنعة أخيراً إلى تضمين الحلقات الخشبية والسقوف صوراً ومشاهد ثم أدخلت المرايا ضمن الزخارف.
11ـالاعمال الفنية المعدنية: منتحلة من الزخارف في العهدين الأيوبي والمملوكي وخاصة فان طارقتي باب القاعة الرئيسية مقتبستان من ذلك العصر .
12 ـ الكتابات: منفذة بالخط الثلث والكوفي. وهي من أثر الفنان المرحوم بدوي، أما الكتابة الكوفية المزواة على الخشب فقد اقتبس طريقتها السيد بشير الخياط (نجل المرحوم أبي سليمان) من بعض الكتب الفنية لكنه وقع في أغلاط لأنه كان إذ ذاك ناشئاً.
13 ـ نقل عناصر زخرفية: من أبنية قديمة وتركيبها في هذا البناء كسقف القاعة الرئيسية واللوحات الزخرفية في أعلى الجدران من القاعة الرئيسية.
في المدخل ردهة صغيرة تطالعنا فيها واجهة خشبية ذات بابين. في الأعلى لوحة من الخشب الباهت كتب فيها بالخط الكوفي الهندسي المزوى:
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون. لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون.
صدق الله العظيم.
تم ألف وثلاثمائة واثنتان وستون ".
عدد المشاهدات: 91083 |